فصل: تفسير الآيات (47- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (47- 48):

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)}
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الواو عاطفة جملة على جملة، والمعنى منقطع من الذي قبله. أمره تعالى أن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى. وعلى قول الزجاج: ذا سراج منير، أو وتاليا سراجا منيرا، يكون معطوفا على الكاف لا في {أرسلناك}. قال ابن عطية: قال لنا أبي رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى، لان الله عز وجل قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا، وقد بين تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22]. فالآية التي في هذه السورة خبر، والتي في {حم عسق} تفسير لها. {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم. {الْكافِرِينَ}: أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعور السلمي، قالوا: يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك. و{الْمُنافِقِينَ}: عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق، حثوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إجابتهم بتعلة المصلحة. و{دَعْ أَذاهُمْ} أي دع أن تؤذيهم مجازاة على إذا يتهم إياك. فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم، فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول. ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين، وناسخه آية السيف. وفية معنى ثان: أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل. وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أمره بالتوكل عليه وآنسه بقوله: {وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا} وفي قوة الكلام وعد بنصر. والوكيل: الحافظ القائم على الامر.

.تفسير الآية رقم (49):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} لما جرت قصة زيد وتطليقه زينب، وكانت مدخولا بها، وخطبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد انقضاء عدتها- كما بيناه- خاطب الله المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، وبين ذلك الحكم للامة، فالمطلقة إذا لم تكن ممسوسة لا عدة عليها بنص الكتاب وإجماع الامة على ذلك. فإن دخل بها فعليها العدة إجماعا.
الثانية: النكاح حقيقة في الوطي، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثما لأنه سبب في اقتراف الإثم. ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطي، وهو من آداب القرآن، الكناية عنه بلفظ: الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان.
الثالثة: استدل بعض العلماء بقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} وبمهلة {ثُمَّ} على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح وأن من طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها، فإن ذلك لا يلزمه.
وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام. سمى البخاري منهم اثنين وعشرين. وقد روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا طلاق قبل نكاح» ومعناه: أن الطلاق لا يقع حتى يحصل النكاح. قال حبيب بن أبي ثابت: سئل علي بن الحسين رضي الله عنهما عن رجل قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق؟ فقال: ليس بشيء، ذكر الله عز وجل النكاح قبل الطلاق. وقالت طائفة من أهل العلم: إن طلاق المعينة الشخص أو القبيلة أو البلد لازم قبل النكاح، منهم مالك وجميع أصحابه، وجمع عظيم من علماء الامة. وقد مضى في {براءة} الكلام فيها ودليل الفريقين. والحمد لله. فإذا قال: كل امرأة أتزوجها طالق وكل عبد أشتريه حر، لم يلزمه شي. وإن قال: كل امرأة أتزوجها إلى عشرين سنة، أو إن تزوجت من بلد فلان أو من بني فلان فهي طالق، لزمه الطلاق ما لم يخف العنت على نفسه في طول السنين، أو يكون عمره في الغالب لا يبلغ ذلك، فله أن يتزوج. وإنما لم يلزمه الطلاق إذا عمم لأنه ضيق على نفسه المناكح، فلو منعناه ألا يتزوج لحرج وخيف عليه العنت. وقد قال بعض أصحابنا: إنه إن وجد ما يتسرر به لم ينكح، وليس بشيء وذلك أن الضرورات والاعذار ترفع الأحكام، فيصير هذا من حيث الضرورة كمن لم يحلف، قاله ابن خويز منداد.
الرابعة: استدل داود- ومن قال بقوله- إن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها، أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلقة قبل الدخول بها.
وقال عطاء بن أبي رباح وفرقة: تمضي في عدتها من طلاقها الأول- وهو أحد قولي الشافعي-، لان طلاقه لها إذا لم يمسها في حكم من طلقها في عدتها قبل أن يراجعها. ومن طلق امرأته في كل طهر مره بنت ولم تستأنف.
وقال مالك: إذا فارقها قبل أن يمسها إنها لا تبني على ما مضى من عدتها، وإنها تنشئ من يوم طلقها عدة مستقبلة. وقد ظلم زوجها نفسه وأخطأ إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها. وعلى هذا أكثر أهل العلم، لأنها في حكم الزوجات المدخول بهن في النفقة والسكنى وغير ذلك، ولذلك تستأنف العدة من يوم طلقت، وهو قول جمهور فقهاء البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام.
وقال الثوري: أجمع الفقهاء عندنا على ذلك.
الخامسة: فلو كانت بائنة غير مبتوتة فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فقد اختلفوا في ذلك أيضا، فقال مالك والشافعي وزفر وعثمان البتي: لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى. وهو قول الحسن وعطاء وعكرمة وابن شهاب.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي،: لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدة مستقبلة. جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من مائه.
وقال داود: لها نصف الصداق، وليس عليها بقية العدة الأولى ولا عدة مستقبلة. والأولى ما قاله مالك والشافعي، والله أعلم.
السادسة: هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، ولقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]. وقد مضى في البقرة، ومضى فيها الكلام في المتعة، فأغنى عن الإعادة هنا. {وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا} فيه وجهان: أحدهما: أنه دفع المتعة بحسب الميسرة والعسرة، قاله ابن عباس.
الثاني- أنه طلاقها طاهرا من غير جماع، قاله قتادة وقيل: فسرحوهن بعد الطلاق إلى أهلهن، فلا يجتمع الرجل والمطلقة في موضع واحد.
السابعة: قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} قال سعيد: هي منسوخة بالآية التي في البقرة، وهي قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي فلم يذكر المتعة. وقد مضى الكلام في هذا البقرة مستوفى. وقوله: {وَسَرِّحُوهُنَّ} طلقوهن. والتسريح كناية عن الطلاق عند أبي حنيفة، لأنه يستعمل في غيره فيحتاج إلى النية. وعند الشافعي صريح. وقد مضى في البقرة القول فيه فلا معنى للإعادة. {جَمِيلًا} سنة، غير بدعة.

.تفسير الآية رقم (50):

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)}
فيه تسع عشرة مسألة: الأولى: روى السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: خطبني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ}
قالت: فلم أكن أحل له، لاني لم أهاجر، كنت من الطلقاء. خرجه أبو عيسى وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال ابن العربي: وهو ضعيف جدا ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتج بها.
الثانية: لما خير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءه فاخترنه، حرم عليه التزوج بغيرهن والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن. والدليل على ذلك قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} الآية. وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعد ذلك؟ فقيل: لا يحل له ذلك جزاء لهن على اختيارهن له.
وقيل: كان يحل له ذلك كغيره من النساء ولكن لا يتزوج بدلها. ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ} والإحلال يقتضي تقدم حظر. وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالاجنبيات فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه قال في سياق الآية {وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ} الآية. ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته ولا من بنات خاله ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحل له التزويج بهذا ابتداء. وهذه الآية وإن كانت مقدمة في التلاوة فهي متأخرة النزول على الآية المنسوخة بها، كآيتي الوفاة في البقرة. وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ} فقيل: المراد بها أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، قاله ابن زيد والضحاك. فعلى هذا تكون الآية مبيحة جميع النساء حاشا ذوات المحارم.
وقيل: المراد أحللنا لك أزواجك، أي الكائنات عندك، لأنهن قد اخترنك على الدنيا والآخرة، قاله الجمهور من العلماء. وهو الظاهر، لان قوله: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ماض، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط. ويجيء الامر على هذا التأويل ضيقا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتزوج في أي الناس شاء، وكان يشق ذلك على نسائه، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى، سر نساؤه بذلك. قلت: والقول الأول أصح لما ذكرناه. ويدل أيضا على صحته ما خرجه الترمذي عن عطاء قال قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحل الله تعالى له النساء. قال: هذا حديث حسن صحيح.
الثالثة: قوله تعالى: {وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أحل الله تعالى السراري لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأمته مطلقا، وأحل الأزواج لنبيه عليه الصلاة والسلام مطلقا، وأحله للخلق بعدد. وقوله: {مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أي رده عليك من الكفار. والغنيمة قد تسمى فيئا، أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة.
الرابعة: قوله تعالى: {وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ} أي أحللنا لك ذلك زائدا من الأزواج اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، على قول الجمهور، لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وآتيت أجرها، لما قال بعد ذلك: {وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ} لان ذلك داخل فيما تقدم. قلت: وهذا لا يلزم، وإنما خص هؤلاء بالذكر تشريفا، كما قال تعالى: {فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ} فيه قولان: الأول: لا يحل لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبد المطلب، وبنات أولاد بنات عبد المطلب، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زهرة إلا من أسلم، لقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله تعالى عنه».
الثاني: لا يحل لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة، لقوله تعالى.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا} ومن لم يهاجر لم يكمل، ومن لم يكمل لم يصلح للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كمل وشرف وعظم، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السادسة: قوله تعالى: {مَعَكَ} المعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها، فمن هاجر حل له، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن. يقال: دخل فلان معي وخرج معي، أي كان عمله كعملي وإن لم يقترن فيه عملكما. ولو قلت: خرجنا معا لاقتضى ذلك المعنيين جميعا: الاشتراك في الفعل، والاقتران فيه.
السابعة: ذكر الله تبارك وتعالى العم فردا والعمات جمعا. وكذلك قال: {خالِكَ}، و{خالاتِكَ} والحكمة في ذلك: أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز وليس كذلك العمة والخالة. وهذا عرف لغوي فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الاشكال وهذا دقيق فتأملوه قاله ابن العربي.
الثامنة: قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} عطف على {أَحْلَلْنا}. المعنى وأحللنا لك امرأة تهب نفسها من غير صداق. وقد اختلف في هذا المعنى، فروى عن ابن عباس أنه قال: لم تكن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد.
وقال قوم: كانت عنده موهوبة. قلت: والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقول: أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل! حتى أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ} [الأحزاب: 51] فقلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وروى البخاري عن عائشة أنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدل هذا على أنهن كن غير واحدة. والله تعالى أعلم. الزمخشري: وقيل الموهبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وام شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم.
قلت: وفي بعض هذا اختلاف. قال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث.
وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار.
وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية.
وقال عروة بن الزبير: أم حكيم بنت الأوقص السلمية.
التاسعة: وقد أختلف في اسم الواهبة نفسها، فقيل هي أم شريك الأنصارية، اسمها غزية. وقيل غزيلة. وقيل ليلى بنت حكيم.
وقيل: هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: هي أم شريك العامرية، وكانت عند أبي العكر الأزدي. وقيل عند. الطفيل بن الحارث فولدت له شريكا.
وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجها، ولم يثبت ذلك. والله تعالى أعلم، ذكره أبو عمر بن عبد البر.
وقال الشعبي وعروة: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين. والله تعالى أعلم.
العاشرة: قرأ جمهور الناس {إِنْ وَهَبَتْ} بكسر الالف، وهذا يقتضي استئناف الامر، أي إن وقع فهو حلال له. وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة موهوبة، وقد دللنا على خلافه.
وروى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح: أن امرأة قالت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جئت أهب لك نفسي، فسكت حتى قام رجل فقال: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لا يقر على الباطل إذا سمعه، غير أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظرا بيانا، فنزلت الآية. بالتحليل والتخيير، فاختار تركها وزوجها من غيره. ويحتمل أن يكون سكت ناظرا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبا. وقرأ الحسن البصري وأبى بن كعب والشعبي {أن} بفتح الالف. وقرأ الأعمش {وامرأة مؤمنة وهبت}. قال النحاس: وكسر {إِنْ} أجمع للمعاني، لأنه قيل إنهن نساء. وإذا فتح كان المعنى على واحدة بعينها، لان الفتح على البدل من امرأة، أو بمعنى لان.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {مُؤْمِنَةً} يدل على أن الكافرة لا تحل له. قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه. قال ابن العربي: والصحيح عندي تحريمها عليه. وبهذا يتميز علينا، فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أطهر، فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات، وقصر هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجلالته على المؤمنات. وإذا كان لا يحل له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها} دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة، قد تقدمت في النساء وغيرها.
وقال الزجاج: معنى {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ} حلت. وقرأ الحسن: {إن وهبت} بفتح الهمزة. و{أن} في موضع نصب. قال الزجاج: أي لان.
وقال غيره: {إِنْ وَهَبَتْ} بدل اشتمال من {امْرَأَةً}.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها} أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلت له، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك. كما إذا وهبت لرجل، شيئا فلا يجب عليه القبول، بيد أن من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته. ويرى الأكارم أن ردها هجنة في العادة، ووصمة على الواهب وأذية لقلبه، فبين الله ذلك في حق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعله قرآنا يتلى، ليرفع عنه الحرج، ومبطل بطل الناس في عادتهم وقولهم.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {خالِصَةً لَكَ} أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا تجوز، فلا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل. ووجه الخاصية أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك. فأما فيما بيننا فللمفوضة طلب المهر قبل الدخول، ومهر المثل بعد الدخول.
الخامسة عشرة: أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح، إلا ما روى عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا: إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز. قال ابن عطية: فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي اشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، وقد تقدمت هذه المسألة في {القصص} مستوفاة. والحمد لله.
السادسة عشرة: خص الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد- في باب الفرض والتحريم والتحليل- مزية على الامة وهبت له، ومرتبة خص بها، ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحرمت عليه أفعال لم تحرم عليهم، وحللت له أشياء لم تحلل لهم، منها متفق عليه ومختلف فيه. فأما ما فرض عليه فتسعة: الأول- التهجد بالليل، يقال: إن قيام الليل كان واجبا عليه إلى أن مات، لقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2- 1] الآية. والمنصوص أنه كان، واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ} [الاسراء: 79] وسيأتي.
الثاني- الضحا.
الثالث- الأضحى.
الرابع- الوتر، وهو يدخل في قسم التهجد.
الخامس- السواك.
السادس: قضاء دين من مات معسرا.
السابع- مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع.
الثامن- تخير النساء.
التاسع- إذا عمل عملا أثبته. زاد غيره: وكان يجب عليه إذا رأى منكرا أنكره وأظهره، لان إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، ذكره صاحب البيان. وأما ما حرم عليه فجملته عشرة: الأول- تحريم الزكاة عليه وعلى آله.
الثاني- صدقة التطوع عليه، وفي آله تفصيل باختلاف.
الثالث- خائنة الأعين، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب. وقد ذم بعض الكفار عند إذنه ثم ألان له القول عند دخوله.
الرابع- حرم الله عليه إذا لبس لامته أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه.
الخامس- الأكل متكئا.
السادس: أكل الأطعمة الكريهة الرائحة.
السابع- التبدل بأزواجه، وسيأتي.
الثامن- نكاح امرأة تكره صحبته.
التاسع- نكاح الحرة الكتابية.
العاشر- نكاح الامة. وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها على غيره تنزيها له وتطهيرا. فحرم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه، تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته قال الله تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]. وذكر النقاش أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما مات حتى كتب، والأول هو المشهور. وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس، قال الله تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ} [الحجر: 88] الآية. وأما ما أحل له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجملته ستة عشر: الأول- صفي المغنم.
الثاني- الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس.
الثالث- الوصال.
الرابع- الزيادة على أربع نسوة.
الخامس- النكاح بلفظ الهبة.
السادس: النكاح بغير ولي.
السابع- النكاح بغير صداق.
الثامن- نكاحه في حالة الإحرام.
التاسع- سقوط القسم بين الأزواج عنه، وسيأتي.
العاشر- إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحل له نكاحها. قال ابن العربي: هكذا قال إمام الحرمين، وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى.
الحادي عشر- أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.
الثاني عشر- دخوله مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف.
الثالث عشر- القتال بمكة.
الرابع عشر- أنه لا يورث. وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لان الرجل إذا قارب الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه، ولم يبق له إلا الثلث خالصا، وبقي ملك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما تقرر بيانه في آية المواريث، وسورة مريم بيانه أيضا.
الخامس عشر- بقاء زوجيته من بعد الموت.
السادس عشر- إذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تنكح. وهذه الأقسام الثلاثة تقدم معظمها مفصلا في مواضعها. وسيأتي إن شاء الله تعالى. وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه. وأبيح له أن يحمي لنفسه. وأكرمه الله بتحليل الغنائم. وجعلت الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا. وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المساجد. ونصر بالرعب، فكان يخافه العدو من مسيرة شهر. وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وجعلت معجزاته كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة. وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة. وقد أنشق القمر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج الماء من بين أصابعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكانت معجزة عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وقد سبح الحصى في يد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحن الجذع إليه، وهذا أبلغ. وفضله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة.
السابعة عشر- قوله تعالى: {أَنْ يَسْتَنْكِحَها} أي ينكحها يقال: نكح واستنكح مثل عجب واستعجب وعجل واستعجل. ويجوز أن يرد الاستنكاح بمعنى طلب النكاح أو طلب الوطي. و{خالِصَةً} نصب على الحال قاله الزجاج.
وقيل: حال من ضمير متصل بفعل مضمر دل عليه المضمر تقديره: أحللنا لك أزواجك وأحللنا لك امرأة مؤمنة أحللناها خالصة بلفظ الهبة وبغير صداق وبغير ولى.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول، لان تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام.
قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ} أي ما أوجبنا على المؤمنين، وهو ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة وولي. قال معناه أبي بن كعب وقتاده وغيرهما.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السعة، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ}. ف {لِكَيْلا} متعلق بقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ} أي فلا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربك في شي. ثم آنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.